شبكة قدس الإخبارية

"قدس" تروي قصص بطولات كتبت بحبر الدم

مخيم "جنين"  .. أزقة "الموت" تخضبتْ بدماء الثوار

356532499_576800774529640_6852894721076546897_n
يحيى اليعقوبي

جنين - خاص قدس الإخبارية: دق القلق مسماره في قلبها الذي زحف إليه الخوف عندما وصلت عقارب الساعة إلى حد الواحدة ظهرًا يوم الاثنين مع اشتداد القصف والعدوان الإسرائيلي على مدينة ومخيم جنين؛ وعندما بلغت الثانية أرسلت لنجلها محمد الشامي (26 عامًا) تسجيلات صوتية بصوتها الدافئ المليء بالخوف، تدعوه في بعضها للحذر: "محمد الوضع صعب. مش زي كل مرة!" وفي أخرى تطلب منه العودة للبيت "خوفًا أن يطاله القصف!" تخشى أن تأتيها مكالمةٌ هاتفية ينعونه فيها، لم تستعد لها بعد.

 كان الابن يبعث على قلب والدته الأمان: "إن شاء الله مش حتأخر" قبل أن يحسم أمره ويختار طريق المواجهة والدفاع عن المخيم على العودة للمنزل: "ادعيلي يمّا.. مش راجع".

ببسالة تصدى محمد رفقة مئات الثائرين الذين امتشقوا بنادقهم وزرعوا في باطن أرض المخيم عبوات "ناسفة" صنعوها بأيديهم وعقولهم من العدم، لمدرعات وجرافات الاحتلال وآلياته وعددها 150 آلية، ونحو ألف جندي إسرائيلي، يخوضون معركة تحت مراقبةٍ من طائرات الاحتلال الحربية "المروحية وبدون طيار".

محمد الشامي .. "باع الدنيا" وظفر بالشهادة

F0Gw4KiXgAEJk5D

 

 "الساعة الثالثة عصر الاثنين تلقينا اتصالاً أخبرونا أن أخي أصيب، ثم تبين أنه استشهد إثر استهداف من طائرة إسرائيلية أدت لاستشهاده وإصابة آخرين. هو سار بهذا الدرب. رحمه الله " يروي شقيقه قصي لـ "شبكة قدس" آخر اللحظات في حياة شقيقه الشهيد.

بنبرة فخر يتابع عن آخر اللحظات لشقيقه نقلاً عن روايات رفاق محمد: "تصدوا للجرافات التي تقدمت القوات المتوغلة، ثم عادوا لمواقعهم داخل المخيم، فرصدتهم الطائرات وقامت بإلقاء صاروخ عليهم".

درس محمد الشامي تخصص المحاسبة بالجامعة الأمريكية في جنين، ولديه شقة وسيارة ويعمل مع عائلته في التجارة "لم ينقصه شيء، حتى أن والدي عرض عليه الزواج، فكان رده: "بدي اتزوج من الحوريات بالجنة".

في بكاء مبحوح، تسقي الدموع صوت شقيقه: "لم يكن يريد العمل، دائمًا مرتبط بأصدقائه الذي استشهد معظمهم، منهم ابن خاله أسامة صبح، وصديقه متين ضبايا، وعبد الله الحصري وجميل العموري".

"سلاحه من مصروفه الشخصي، وعلاقته كانت جيدة مع جميع التنظيمات، ويشارك في التصدي لقوات الاحتلال، تعلق بالوطن والشهادة رغم كل ما توفر له وكان محبوبًا من الجميع" يقول شقيقه.

علي الغول .. "مهندس العبوات"

6GI1o
 

في مشهدٍ آخر، ارتدى علي الغول (17 عامًا) ملابس العيد وأدى التحية العسكرية لشقيقاته اللواتي اعتدن على مغادرته بهذه الطريقة من المنزل، وغادر إلى لساحة المخيم.

اغرورقت عينا والدته بالدموع وهي ترى صورة لثلاثة شبان مضرجين بدمائهم ممددين على جانبي الطريق أسفل مركبات بحارة "الدمج" بمخيم جنين، مشهد لا تجده إلى في المجازر الجماعية وحروب الإبادة، هزت الضمير الإنساني وكشفت عن بشاعة جرائم الاحتلال الإسرائيلي التي حركت في الذاكرة مشاهد مماثلة لجرائم العصابات الصهيونية إبان احتلال فلسطين.

بصوت تقطعه الدموع وصرخة اجتاحت قلب أمه نادت على زوجها "تعال شوف .. هدا علي!" لم يختلط الأمر على والده للحظة، فكانت الصورة واضحة، تعرف على نجله من هيئة جسده وملابس وحذاء اشتراهم وارتداهم "علي" في العيد، انفلتت دموعه هو الآخر.

في بيت العزاء، يقف والده بين صفوف المعزين وكأنه يعيش في حلم لم يفق منه، يقول لـ "شبكة قدس" والألم يعتصر قلبه: "صعب أن تجد فتى مثل "علي"، كان ضحوكًا، محبوبًا عطوفا على شقيقاته، يستجيب لأي إنسان طلبه للمساعدة دون مقابل، تعرفه جنين وبلداتها".

لكن بعد استشهاده تكشف السر الذي أخافه "علي" عن والده، يقر بكلمات ممزوجة بالفخر "رأيت مقطع فيديو له، وحدثني الشباب أنه كان يشارك بتصنيع العبوات الناسفة، وهذا أثلج صدري".

لدى علي سبع أخوة ذكور وست شقيقات، يملأ الرضا قلب والده "ابني محافظ على صلاته، شاب سبق عمره بسنين عديدة، كان دائما يقول لوالدته: "أنا مشروع شهادة"، وحقق الله ما أراد له".

يقول شقيقه لـ "قدس": إن شقيقه "بدأ المقاومة منذ طفولته، وكان يتعهد بالصمود بوجه الاحتلال قائلاً: "على جثتي ما بدخلوا اليهود المخيم"، خاصة أن معظم أصدقائه استشهدوا".

بجانب سيارات لا زالت شاهدة على أثر القصف، وجدران تملأها الشظايا وعبارة مكتوب عليها "زقاق الموت"، يعيد أحد شهود العيان لـ "قدس" رواية لحظة استشهاد "علي" يقول هو يقف بساحة المكان المستهدف وحوله سيارات تهشمت: "ساروا مثل القطار، وعندما وصلوا هذه النقطة، قصفتهم الطائرة، فأصيب ثمانية منهم قبل نقلهم للمشفى واستشهد علي الغول".

مجدي عرعراوي .. حلم "المهندس" لم يكتمل

QF7OK
 

ارتبط استشهاد علي الغول، بمجدي عرعراوي (17 عامًا) فلحظة إصابة علي حاول مجدي إسعافه، ليتعرض لإصابة في القدم، وعندما حاول كمال (ابن عم مجدي) التسلل من وراء المركبات محاولا اسعافه بخلع سترته وربط طرفها بقدمه وحمله، أطلق قناص إسرائيلي رصاصة اخترقت عينه ولا زال يرقد بمستشفى رفيديا بنابلس بحالة خطرة، وأكمل القناص جريمته بإطلاق رصاصات اخترقت صدر ورقبة ويد مجدي الذي ارتقى شهيدا.

قبل الحدث المؤلم تلقى مجدي اتصالاً هاتفيًا من أحد أصدقائه وغادر بيته، حاولت والدته اللحاق به لمعرفة وجهة ابنها لكنها لم تدركه، وبقيت تنتظره على باب البيت، قبل أن تعرض عليها كنتها صورة لنجلها انتشرت على تطبيق "تلجرام" بعد دقائق من مغادرته منزله وهو ممدد على الأرض بجانب الشهيد علي الغول تتجمع تحتهما بركة دماء، نظرت إلى الصورة باتساع عينيها، تنزف منهما دموعٌ حارقة.

تستعيد أمه لـ "شبكة قدس" وجه ابنها مجدي قبل مغادرته المنزل بقلب متماسك وصوت مليء بالرضا "كنت معه نخرج معا نتابع أخبار العدوان ونراقب ما يجري في الخارج، قبل أن يخرج بعد تلقيه اتصال هاتفي".

الحزن يرافق صوتها وهي تطل على الحدث "عندما انتشرت الصورة هرعت للمكان، لكنني وجدت الإسعاف قد نقله للمشفى، ومنعني جيش الاحتلال من التوجه للمشفى. بعد إصابة أحد الشباب ركبت معه بسيارة الإسعاف للمشفى. عشت لحظات صعبة كي أتأكد من خبر الاستشهاد".

كان يستعد مجدي لإدخال الفرحة على قلب عائلته بعد ست سنوات من مفارقة والده الذي توفي بمرض السرطان، وكان متفوقا بدراسته ويطمح بدراسة هندسة إلكترونيات.

يثقل الفقد صوتها "مجدي صاحب دين وخلق، متفوق بدراسته، كنا ننتظر نتيجة الثانوية العامة بفارغ الصبر. أرجأت سفري لشقيقتي لمدينة عمان وكان ينوي مرافقتي بعدما عرفنا أن النتائج ستعلن في 20 يوليو، تموز أو بعده بقليل، وقال لي: "خليني أفرح مع أصحابي وبعدين نطلع".

"ربنا أكره بالشهادة. إن شاء الله يكون في الفردوس الأعلى" بقلب ممتلئ بالرضا والصبر وحزن عميق يملؤه ختمت.

سميح أبو الوفا .. ابن فلسطين

83ef4b13dd87ce49a5deee9488af7b7c
 

أما سميح أبو الوفا، فارتدى أجمل ثيابه حينما انتهت مناوبة الشمس مع حلول مغرب الأحد، وطلب من والدته إدلاء رأيها بأناقته: "كيف اللبسة، حلوة!؟" ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة وهو يحدث والدته: "سمعت أنه اللي أمه بترضى عنه، بقرب موعد استشهاده، إرضي عني"، وغادر.

عند حلول الواحدة فجر الاثنين، ساور الشك قلبها فاتصلت أمه به وسألته: "مالك ما رجعتش، الساعة صارت واحدة" بالعادة لا يتأخر أكثر من منتصف الليل، "يلا هياتني مروح".. بهذا رد على والدته، قبل أن يهز بعدها بدقائق انفجار قوي أرجاء المخيم، وصل إلى قلب والديه.

لم يتحمل والده أن يبقى أسيرًا للشك والاحتمالات بعد عدم رد  ابنه على المكالمات الهاتفية المتتالية، فانطلق نحو مستشفى جنين الحكومي.

 وقبل أن يدخل عتبات المشفى، وصل مسامعه أطراف أحاديث بين شباب يتناقلون أسماء المصابين وكان اسم نجله بينهم، فاتجه نحو قسم الطوارئ والقلق يتلاعب بقلبه، يسأل الطبيب بصوت قطعه الخوف: "في مصاب اسمه سميح أبو الوفا"، صمت الطبيب واحتار، ثم نداه صوت ربت على كتفه من الخلف بعدما عرفه "الله يرحمه ويصبركم. هو في ثلاجة الشهداء"، نزل الخبر كالصاعقة على قلبه، وجرت معه دموع عينيه.

منذ عشرة أيام كان سميح وبقية الثائرين يتأهبون لاجتياح إسرائيلي مرتقب للمخيم بفعل ما يصدره الإعلام العبري من تهديدات، عاشت عائلته في قلب هذه الحالة، يقول والده لـ "شبكة قدس": "كان في حالة استنفار كحال باقي الثوار لصد العدوان".

"هو شهيد فلسطين، ومن أهم أمنياته أن تساهم دماؤه بتوحيد الصف الوطني" يتدفق الفخر من قلب والده، ويتابع بألم: "أوصى أن يدفن على سنة الله ورسوله، وتوضع سجادة صلاة على جثمانه، ويعصب جبينه بكلمة التوحيد "لا إله إلا الله".

تسقي الذكريات حديث والده "كان على يقين أنه سيستشهد، رغم أنه خجول لكن تجاوزت شخصيته حدود الشجاعة، فكان لا يهاب أي شيء إضافة لأنه مؤمن بعدالة قضيته، وهب روحه لفلسطين ولله امتاز بالكتمان الشديد والصمت، حتى نحن كان يخفي عنا عمله المقاوم، فكان يبرر تأخره وإغلاق هاتفه، إما بنفاد البطارية أو بحدوث ظرف معه، وبعد استشهاده تبين أنه كان يقاوم".

منذ طفولته كان يرافق سميح والده الذي عمل ضمن كوادر حركة فتح بالمخيم، وتعلم إعداد الأكواع (قنابل محلية الصنع)، وعمل في المنطقة الصناعية في جنين كهربائي سيارات وتركيب الكماليات (مسجلات ولوحات مضيئة)، وله شقيق وثلاث شقيقات.

عن آخر لحظات نجله قبل استهدافه ينقل عما رواه له رفاقه "كان يجلس في غرفة عمليات ويتناقل الإشارات على جهاز "اللاسلكي" فجرى استهدافهم بطائرة متفجرة (دورن)".

"أحمد العامر" قاوم بقدم مصابة

F0Gxd0dX0AA5uff
 

مع حلول فجر الاثنين، حاصرت قوات الاحتلال منزل أحمد العامر (21 عامًا) واحتجزت والدته وعائلته في بيتٍ واحد مع بدء اللحظات الأولى لعدوان الاحتلال على مخيم جنين، معه انقطعت العائلة على مدار يومين عن العالم الخارجي.

لم يكن أحمد بعيدًا عما جرى مع عائلته، فعاد لأخذ "استراحة قصيرة" في بيت عمه، وهناك أجرى اتصالاً هاتفيًا مع والدته المحاصرة، تستهل أمه حديثها لـ "شبكة قدس" باستعادة تفاصيله "عاد فجرًا، أدى الصلاة واطمأن علي وقال لي: "دير بالك على حالك" وطلب مني النوم، وتناول الإفطار وغادر، ونحن بقينا محتجزين في بيت واحد".

بين حصار من قبل جنود جيش الاحتلال، وقلق على نجلها "أحمد" عاشت والدته بين حصارين، "كنت أنتظر أي شيء عنه بعد انقطاع اتصالنا به".

الساعة الحادية عشر صباح الاثنين، أستشهد أحمد وهو يدافع عن مخيم "جنين"، وصل الخبر إلى أمه القابعة بين الحصار، فغابت في بكاء تسقيه ذكريات سنوات طويلة ترعرع ابنها أمام عينيها، وهي لا تملك إلا كلمات رثاء فقده  "كان شابا محبوبًا، مقاومًا دافع عن المخيم، كان طموحه أن يستشهد".

لم يكن استشهاد نجلها مفاجئًا، فتعرض لإصابات عديدة خلال تصديه لاقتحامات قوات الاحتلال للمخيم، حتى أنه قاوم الاحتلال بالعدوان الأخير على جنين بقدم مصابة.

تخضبت أزقة المخيم بدماء الثائرين الذين سطروا بها ملحمة بطولية أعادت الأذهان للبطولات التي سطرها المقاومون القدامى عام 2002 خلال معركة جنين. مضى 21 عامًا ولا زالت جنين ومخيمها تقدم فلذات كبدها، "وخيرة مقاوميها" الذين لم يبخلوا عن الجود بدمائهم.

توحد المقاومون من كافة الفصائل الذين قاتلوا باسم "فلسطين"، وقف ابن "السرايا والقسام وكتائب شهداء الأقصى" في صفٍ واحد يدافعون عن مخيمهم، ويرسمون بدمائهم وصمودهم ملامحه المرحلة المقبلة،  مؤكدين أن "الوحدة الوطنية الميدانية طريق النصر والتحرير" متجاوزين كل الخلافات السياسية.

#شهداء_جنين #مقاومة_جنين